فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا}.
يعني محمدًا صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {قَالُواْ} يعني كفار مكة {لولا} أي هلا {أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} من العصا واليد البيضاء، وأنزل عليه القرآن جملة واحدة كالتوراة، وكان بلغهم ذلك من أمر موسى قبل محمد؛ فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ قَالُواْ سَاحِرَانِ تَظَاهَرَا} أي موسى ومحمد تعاونا على السحر.
قال الكلبي: بعثت قريش إلى اليهود وسألوهم عن بعث محمد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته.
فلما رجع الجواب إليهم {قَالُوا سَاحِرَان تَظَاهَرَا}.
وقال قوم: إن اليهود علَّموا المشركين، وقالوا قولوا لمحمد لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة.
فهذا الاحتجاج وارد على اليهود، أي أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى حين قالوا في موسى وهارون هما ساحران و{إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي وإنا كافرون بكل واحد منهما.
وقرأ الكوفيون: {سِحْرَانِ} بغير ألف؛ أي الإنجيل والقرآن.
وقيل: التوراة والفرقان؛ قاله الفرّاء.
وقيل: التوراة والإنجيل.
قاله أبو رزين.
الباقون {سَاحِرَانِ} بألف.
وفيه ثلاثة أقاويل.
أحدها: موسى ومحمد عليهما السلام.
وهذا قول مشركي العرب.
وبه قال ابن عباس والحسن.
الثاني: موسى وهارون.
وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة.
وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد.
فيكون الكلام احتجاجًا عليهم.
وهذا يدلّ على أن المحذوف في قوله: {لَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} لما جدّدنا بعثة الرسل؛ لأن اليهود اعترفوا بالنبوّات ولكنهم حرّفوا وغيّروا واستحقوا العقاب، فقال: قد أكملنا إزاحة عذرهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
الثالث: عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
وهذا قول اليهود اليوم.
وبه قال قتادة.
وقيل: أولم يكفر جميع اليهود بما أوتي موسى في التوراة من ذكر المسيح، وذكر الإنجيل والقرآن، فرأوا موسى ومحمدًا ساحرين والكتابين سحرين.
قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ} أي قل يا محمد إذ كفرتم معاشر المشركين بهذين الكتابين {فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ} ليكون ذلك عذرًا لكم في الكفر {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أنهما سحران.
أو فأتوا بكتاب هو أهدى من كتابي موسى ومحمد عليهما السلام.
وهذا يقوي قراءة الكوفيين {سِحْرَانِ}.
{أَتَّبِعْهُ} قال الفرّاء: بالرفع؛ لأنه صفة للكتاب وكتاب نكرة.
قال: وإذا جزمت وهو الوجه فعلى الشرط.
قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} يا محمد أن يأتوا بكتاب من عند الله {فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أي آراء قلوبهم وما يستحسنونه ويحببه لهم الشيطان، وأنه لا حجة لهم.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} أي لا أحد أضل منه {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا}.
{والحق} هو الرسول، محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم.
وقيل: القرآن، {مثل ما أوتي موسى}.
{من قبل} أي من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة، وانقلاب العصا حية، وفلق البحر، وغيرها من الآيات.
اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليه كنز، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم.
وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش، قالوا لهم.
ألا يأتي بآية باهرة كآيات موسى، فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من هؤلاء في آيات الرسول.
فالضمير في: {أو لم يكفروا} لليهود، قاله ابن عطية: وقيل: قائل ذلك العرب بالتعليم، كما قلنا.
وقيل: قائل ذلك اليهود، ويظهر عندي أنه عائد على قريش الذين قالوا: {لولا أوتي} أي محمد، {ما أوتي موسى} وذلك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيب لموسى عليه السلام، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء هم من وادٍ واحد.
فمن نسب إلى أحد من الأنبياء ما لا يليق، كان ناسبًا ذلك إلى جميع الأنبياء.
وتتناسق الضمائر كلها في هذا، في قوله: {قل فأتوا بكتاب من عند الله} وإن كان الظاهر من القول إنه النطق اللساني، فقد ينطلق على الاعتقاد وهم من حيث إنكار النبوات، معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من الآيات إنما هو من باب السحر.
وقال الزمخشري: {أو لم يكفروا} يعني آباء جنسهم، ومن مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى {بما أوتي موسى}.
وعن الحسن: قد كان للعرب أصل في أيام موسى، فمعناه على هذا: أو لم يكفر آباؤهم؟ قالوا في موسى وهارون: {ساحران تظاهرا} أي تعاونًا. انتهى.
ومن قبل: يحتمل أن يتعلق بيكفروا، وبما أوتي.
وقرأ الجمهور: ساحران.
قال مجاهد: موسى وهارون.
وقال الحسن: موسى وعيسى.
قال ابن عباس: موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن أيضًا: عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والكوفيون: سحران.
قال ابن عباس: التوراة والقرآن.
وقيل: التوراة والإنجيل، أو موسى وهارون جعلا سحرين على سبيل المبالغة.
{تظاهرا} تعاونا.
قرأ الجمهور: تظاهرا: فعلًا ماضيًا على وزن تفاعل.
وقرأ طلحة، والأعمش: اظاهرا، بهمزة الوصل وشد الظاء، وكذا هي في حرف عبد الله، وأصله تظاهرا، فأدغم التاء في الظاء، فاجتلبت همزة الوصل لأجل سكون التاء المدغمة.
وقرأ محبوب عن الحسن، ويحيى بن الحارث الذماري، وأبو حيوة، وأبو خلاد عن اليزيدي: تظاهرا بالتاء، وتشديد الظاء.
قال ابن خالويه: وتشديده لحن لأنه فعل ماض، وإنما يشدد في المضارع.
وقال صاحب اللوامح: ولا أعرف وجهه.
وقال صاحب الكامل في القراءات: ولا معنى له. انتهى.
وله تخريج في اللسان، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر، وساحران خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنتما ساحران تتظاهران؛ ثم أدغمت التاء في الظاهر وحذفت النون، وروعي ضمير الخطاب.
ولو قرىء: يظاهرا، بالياء، حملًا على مراعاة ساحران، لكان له وجه، أو على تقدير هما ساحران تظاهرا.
{وقالوا إنا بكل كافرون} أي بكل من الساحرين أو السحرين، ثم أمره تعالى أن يصدع بهذه الآية، وهي قوله: {قل فأتوا} أي أنتم أيها المكذبون، بهذه الكتب التي تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق، ونهت عن الكفر والنقائص، ووعد الله عليها الثواب الجزيل.
إن كان تكذيبكم لمعنى {فأتوا بكتاب من عند الله} يهدي أكثر من هدي هذه، أتبعه معكم.
والضمير في منها عائد على ما أنزل على موسى، وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم، وتعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق متيقن، أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم، كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين.
ويجوز أن يراد بالشرط التهكم بهم.
وقرأ زيد بن علي: أتبعه، برفع العين الاستئناف، أي أنا أتبعه.
{فإن لم يستجيبوا لك} قال ابن عباس: يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج، ولم يمكنهم أن يأتوا بكتاب هو أفضل، والاستجابة تقتضي دعاء، وهو صلى الله عليه وسلم يدعو دائمًا إلى الإيمان، أي فإن لم يستجيبوا لك بعدما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي أنزل، أو يكون قوله: {فأتوا بكتاب} هو الدعاء إذ هو طلب منهم ودعاء لهم بأن يأتوا به.
ومعلوم أنهم لا يستجيبون لأن يأتوا بكتاب من عند الله، فاعلم أنه ليس لهم إلا اتباع هوى مجرد، لا اتباع دليل.
واستجاب: بمعنى أجاب، ويعدى للداعي باللام ودونها، كما قال: {فاستجاب له ربه} {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى} {فإن لم يستجيبوا لكم} وقال الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فعداه بغير لام.
وقال الزمخشري: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء وإلى الداعي باللام، ويحذف الدعاء إذا عدى إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، واستجاب له، فلا يكاد يقال استجاب له دعاءه.
وأما البيت فمعناه: فلم يستجب دعاء، على حذف المضاف. انتهى.
{ومن أضل} أي لا أحد أضل، و{بغير هدى} في موضع الحال، وهذا الحال قيد في اتباع الهوى، لأنه قد يتبع الإنسان ما يهواه، ويكون ذلك الذي يهواه فيه هدى من الله، لأن الأهواء كلها تنقسم إلى ما يكون فيه هدى وما لا يكون فيه هدى، فلذلك قيد بهذه الحال.
وقال الزمخشري: يعني مخذولًا مخلى بينه وبين هواه. انتهى. وهو على طريق الاعتزال. اهـ.